حكايات جدي الحلقة الثالثة والأخيرة


النوافذ في الدور الثاني كبيرة جداً حيث كانت مقسمة لجزء سفلي ثابت لايفتح وجزء أعلي متحرك ولكن تلك النوافذ أصبحت ألوانها مختفية باهتة لا يتبقي منها سوي آثار أو بقايا قليلة من زهوتها السابقة ربما تشعرك أنها  كانت في يوم ما  باللون الأخضر الزاهي وبعضها مُتهالك محطم وبعضها لم يكن مغلقاً بل مُشرعاً علي مصرعيه.
كنت أثناء ذلك في مُقدمة الفناء اتلفت بحذر وروية من حولي وأنا في حالة مُتشابكة من الفزع والجزع والروحانية التي أحاول من خلالها أن أستشف شيء ما, اتطلع من حولي لكي اتلمس شيء ما من تاريخ وذكريات هذا المنزل العتيق لكي اتبصر أو أشاهد ما كان يحدث في هذا المنزل.

كانت أول مرة في حياتي أستطيع أن أشعر بما يحدث من حولي في مكان ما, ففي ذلك اليوم شعرت بأن بداخلي طاقة كامنة تجعلني أهيم في المكان بحرية تامة بل أستطيع التواصل مع المكان بكل يسر وخاصةً في تلك الأماكن القديمة, تلك القوة تمنحني القدرة علي تخيل ما قد حدث في هذا المكان أو التواصل مع الأرواح التي تقطن المكان بدون أن اعبث بشيء يزعجها, فقط أحاول أن أتوارد معها فكرياً لكي تنجلي أمامي الرؤية كاملة واضحة جلية وأكون جزءاً من المكان لبضعة دقائق.

كنت في تلك اللحظة مثل الذي يتبع تلك الريشة التي تتطاير في الهواء, كنت أحدق في كل إتجاه اتأمل كل شيء وأعود بالخلف مع كل الأشياء التي بقت مع هذا المنزل فشعرت أن هنالك شيء ما وراء تلك النوافذ  يختبيء في الظلام ربما ينظر إلي ربما يشعر بما يحدث بداخلي حاولت أن أحدد ماذا أشعر به وما الذي يقبع خلف تلك النوافذ ولكنني لم أستطع لكني أشعر بأنفاسه المتلاحقة كأنه يخشي أن يأتي غريباً مثلي يقتحم المكان يعبث بذكرياته.

كنت اسمع في أذني صدي ضحكات أطفال تمر في ذلك الفناء بالقرب مني أكاد أراهم بثيابهم البيضاء, تلك القمصان البيضاء الصيفية وتلك الشورتات القصيرة بلونها الرصاصي القاتم حيث كان هنالك أرجوحة في مكان ما ولكن الآن ليست موجودة ,فقط أشاهدهم ألمح أطيافهم وهم يركضون ويلهون ويضحكون من وراء بعضهم البعض, هنالك طفل صغير لا يتعدي عٌمره الثامنة ووجهه الصغير بلونه الخمري وشعره القصير المٌجعد وأذنيه الصغيرتين أشعر أنه يتطلع إلي يراقبني , تبدو علامات الإندهاش جلية علي ملامحه من وجودي في تلك البقعة الزمنية كأنه يتسائل كيف ولجت إلي منزلهم والباب مُغلق من ورائي ؟!! .. كيف صرت أقف هكذا أٌتابعهم ولا أحد يطالعني سوي هو ؟!!, جزعت وشعرت بالخوف والفزع يطل بقشعريرة تهز أغواري , هل هم مٌجرد أطياف تسكن المكان أم أن الزمن قد جذبني من خلال بوتقة مُظلمة حالكة لكي أتجاوزها, في خضم ذلك ادركت أن هنالك صوت قادم من أعلي ينادي عليهم بصوت أنثوي صارم لكي يصعدوا.

لم أستطع الشعور أو رؤية أكثر من هذا, ربما من حالة الجزع التي إنتابتني فجأة وشعوري بالزمن دون أدرك ذلك بالرغم من حالة الفضول التي إنتابتني لكي اتأمل تلك المرأة التي كان صوتها يأتي من الطابق العلوي ولكن لم أشاهد سوي الأطفال وهم يسرعون داخل المنزل وأنا خلفهم أُتابعهم عن كثب, قررت الدخول لكي أري جدي وأخبره أنني سوف أقضي بعض الوقت معه ومع جدتي .

المنزل من الداخل لم يكن به شيء من الأثاث, فقط تلك الغرفة التي تقع علي يمين من يدخل المنزل فربما كانت مهيئة للإستقبال الضيوف في ما مضي والآن أصبحت مكان جدي المفضل حيث وجدت جدي يجلس علي تلك الأريكة  التي ينام عليها أيضاً أثناء القيلولة وأمامه طاولة وبعض الكتب القديمة التي يعتليها أكوام من الغبار في أحد الأركان وبعض الصور القديمة المعلقة علي الحائط حيث أنها صور قديمة جداً ولكن استرعي إنتباهي شيئاً ما غريب بالنسبة لي في صورة صغيرة معلقة في الركن القصي, إنهما الطفلين مع سيدة ترتدي تلك البيشة التي تغطي وجهها, إقتربت منها قليلاً , ما هذا إنه الطفل الذي كنت أتتبع خطواته منذ قليل وقد تطلع إلي وجهي, ياتري من هذا الطفل وماهي حكايته وهل مات وهو صغير أم مازال حي يرزق ؟!!!.

فالواقع لم أهتم بجدي كثيراً عندما ولجت داخل المنزل حيث كنت اتطلع في تلك الحوائط العالية أشعر بأشياء تمر من جواري , فالمكان مُفعم بالطاقة حتي أكاد أشعر بأنفاس متلاحقة تلهث من حولي كأنني قد هويت في متاهة من الأنفاس الباردة لأشياء لا أراها, أكاد أشاهد أثاث المنزل المٌتناثر في كل جانب وهذا الدولاب الزجاجي الشفاف وبعض الفضيات والصيني الذي كان مٌرتباً بشكل جيد بلونه البني الداكن, أتابع ضوء الشمس يسطع في المكان وأشعة الشمس التي تخترق المكان مٌجسمة علي هيئة خطوط متوازية والطفل الصغير الذي يراني يقف ينظر إلي ثم يكمل مسيرته في اللهو مع أخيه, إستمريت في ذلك البهو حتي ذلك الممر الذي يؤدي إلي نهاية المنزل, أشياء كثيرة تزدحم في جنبات عقلي بجوار كل تلك الأفكار المشوشة ربما يشعر بها جدي حيث نظرت إليه لأخبره بأنني أشعر بهم حولي فهم اكثر من شيء واحد, لم أستطع أن أصف له مابداخلي من إحساس بالمكان, إبتسم جدي لي ولم يتكلم  كأنه لا يريد أن يتحدث معي عنهم بل يريد أن يعيش معهم, ربما هو يحترم رغبتهم أكثر مني لا يرغب أن يزعجهم ويخرجهم من عالم الذكريات الذي يتجولون بداخله,فقط يتطلع إليهم من خلال تلك الصور المتناثرة علي تلك الحوائط حيث تركها من ترك هذا البيت لجدي, تلك الصور ذات الطابع القديم والذي بلاشك يعود تاريخها إلي أوائل القرن الماضي من خلال طريقة التصوير والثياب.

تقدمت نحو ذلك الممر بداخل البيت حتي وجدت ذلك الدرج الذي يؤدي إلي الطابق العلوي فقررت الصعود لأشاهد وأشعر بذكريات هذا المكان ولكنني عند منتصف الدرج لم أستطع حتي كادت أنفاسي المتلاحقة تشعرني بصعوبة التنفس فركض وهربت من هذا المنزل مسرعاً حتي لا أكون أسيراً له مثل جدي هذا.
👈لا تنسي الاشتراك في قناة حواديت مصرية علي التليجرام : https://t.me/hawadedmasiah

Post a Comment

أحدث أقدم