كان جدي قد عمل في البوليس منذ بداية الأربعينات حتي نهاية الخمسينات من القرن الماضي وفي تلك فترة قضي حياته في حالة ترحال من مدينة إلي أخري نتيجة لتنقله بسبب ظروف عمله في البوليس.
أتذكر في زياراتي
الأولي أن جدي كان يسكن تلك الغرفة القريبة من باب المنزل حيث كان قليل الكلام دائماً
مغلق باب غرفته حيث يجلس منفرداً بداخلها دون الحديث مع أحد .
وعندما كنت في سن السابعة كنت أشعر
أنني أقتحم غرفته حيث أنها كانت غرفة بسيطة للغاية حيث كان بها مخدع صغير وطاولة ودولاب
صغير وواجهته من الزجاج بلونه الأزرق وزجاجة المعتم ,كان هذا الدولاب الصغير به كل
شيء يخصه ولا يستطيع أحد أن يجرؤ أن يقترب منه, فقط كان يمنحني بعض الحلوي من هذا الدولاب
لكي أتركه يجلس في صمته مرة أخري دون أن أعبث بمحتويات غرفته أو هدوءه الذي يسكن
جنباته وهذا جعلني أرسم الكثير من تخيلاتي عن هذا الجد في صورة من الغموض حوله
دفعتني للمزيد من الفضول أن أتتبع وأجمع ماقيل عنه أو تم روايته عن حياته في السابق.
مرت بعض الأعوام حيث
إحتفظت بإنطباعاتي تلك وتخطي عمري العاشرة حينما ذهبت إلي القرية ثانية لزيارة جدي وجدتي ولكن
في تلك الزيارة أخبرتني جدتي أن جدي في المنزل المقابل علي الطرف الآخر من الطريق ,
آنذاك قد تعجبت كثيراً لماذا يقضي معظم وقته هكذا في هذا المنزل القديم حيث كنا نسمع عنه
الكثير من الحكايات والروايات عن أشباح وأرواح غريبة تسكن ذلك المنزل والشائعات حول تلك اللعنة التي أصابت أهل
هذا المنزل وأن أصحاب هذا البيت قد رحلوا منذ فترة بعيدة وتركوا مفاتيح هذا المنزل
مع الجد الذي أصبح يقضي معظم وقته داخل هذا المنزل فالكثير من أفراد عائلة جدي كانوا يخشون
أن يدخلوا هذا المنزل خوفاً من الشائعات حول هذا المنزل والحكايات التي كانت تروي عنه واللعنة
التي كانوا يتحدثون عليها في الخفاء حتي لا يسترق السمع أحد من تلك الأرواح التي
تقطن بداخل جدران هذا المنزل.
بطبيعة فضولي ورغبتي
المتواصلة التي ولدت وترعرعت بداخل أغواري في تتبع كل شيء يخرج عن نطاق المألوف ويمنحني
فرصة لكي أتابع وأتخيل ماذا يدور من تفصيلات صغيرة في كل تلك الروايات التي أجمعها
من حولي, فأنا أشعر دائماً أن الفضول يقتلني والرغبة بداخلي تدفعني أن أكتشف واتتبع وأشاهد
هذا المنزل من الداخل فجدتي أخبرتني أن هذا البيت يعود بنائه إلي أكثر من مائة عام
وكان لشخص ذو مكانة في الماضي البعيد وهجره أولاده لكي يعيشوا في القاهرة بعد موت أبيهم,
بلاشك مبني له تاريخ متوغل في القدم في تلك البقعة لابد أن يكون له تاريخ حافل بالحكايات
والأساطير التي تحتاج فقط من يزيح عنها غبار الزمن.
عندما سألت جدتي لماذا هذا المنزل تدور حوله كل تلك
الحكايات؟!! .....
أخبرتني أن كان بالمنزل
شجرة عنب قديمة كانت تظلل بأوراقها وفروعها المتسللة إلي كل أرجاء المنزل, تلك
الشجرة كانت مزدهرة تلقي بعناقيد العنب المزدهرة في كل مكان تظلل علي المنزل بأكمله
وعندما ماتت تلك الشجرة مات من كان يملك هذا المنزل وخيم الحزن علي أرجائه.
لاتعلم جدتي الكثير
عن موت مالك المنزل أو ماذا حدث بعد ذلك ولكنه أصبح مهجور بسبب تلك الشجرة الموجودة
بداخل فناء هذا المنزل والتي لم يبقي منها سوي ساق وفروع جافة متناثرة في كل أرجاء
المنزل, فالأساطير الشعبية تخبرنا أن المنزل عندما تنبت بداخله شجرة عنب وتزدهر ثم
تموت يموت معها أحد قاطني المنزل أو يهجره أصحابه لأي سبب ما وهذا ماحدث في منزل مجاور
لي في مدينتي فعندما ماتت الشجرة رحل من يسكنون به وأصبح الآن مهجور معظم الوقت
مٌجرد مكان تلهو بداخله أشياء نسترق السمع لها أحياناً .
قررت أن أعبر الطريق
الذي يفصل منزل جدي عن هذا المنزل حيث وقفت أتأمل ذلك السور العالي الذي يحيط به مما
يجعلك من الصعب أن تري ملامح المنزل الخارجية من خارج هذا السور وبعض أفرع شجرة العنب
الجافة الممتدة فوق ذلك السور مثل أزرع ممتدة وقد ماتت منذ أمد بعيد حتي تلك البوابة
الكبيرة الصدأة منذ فترة طويلة حيث لم يجدد أحد هذا المنزل منذ عشرات السنين.
عندما تخطيت تلك البوابة
وجدت أمامي ذلك الممر القديم حيث يعلوه تلك الألواح الخشبية التي كانت تحمل تلك الشجرة
عندما كانت خضراء ويتدلي منها عناقيد العنب ولكنها الآن تحمل بقايا تلك الشجرة, فقط
سيقان وفروع ممتدة كأنها مثل الأموات التي تستغيث من آلام الموت, في مقدمة المنزل
كان هنالك حديقة أو بقايا حديقة تمنحك إنطباع بان تلك الحديقة كانت مُزدهرة في يوم
ما وأنها كانت تحتوي علي شيء يشبه كشك الموسيقي أو مكان مٌخصص لجلوس العائلة ولم
يبقي منه شيء سوي بقايا أجزاء لا تدل علي شيء.
تقدمت أكثر داخل هذا
الممر الذي يؤدي إلي مدخل هذا المنزل والذي يتكون من عدة أدراج علي جانبيه زخارف
تشبه آنية الأزهار وفي نهايتها تمثال صغير يبدو كأنه رأس أسد صغير الحجم, كذلك
يتواجد العديد من تلك الزخارف المنتشرة علي واجه هذا المنزل حتي ذلك الطائر الضخم
الذي يحلق بجناحيه في أعلي نقطة في المنزل لم يبقي منه سوي أجزاء من جناحيه ربما
إنهار في يوم ما بسبب الإهمال, وجدت هذا المنزل مكون من طابقين حيث الجدران الضخمة
العريضة وقضبان الحديد التي تشبة قضبان السكة الحديد التي تٌشكل الدعامة الرئيسية
في تحمل سقف المنزل وتلك الشرفات أيضاً أسوارها الحديدية المتأكلة من فعل الزمن وهذا
يدل أن هذا المنزل يعود إلي أكثر من مائة وخمسون عاماً لأن هذه الطريقة في البناء كانت
منتشرة كثيراً في ذلك الوقت حيث أن معظم تلك البيوت قد بُنيت علي الطريقة الإنجليزية
في البناء والتي تعود إلي عصر البخار والنهضة في أوروبا.
تابع الجزء الأخير ....
👈لا تنسي الاشتراك في قناة حواديت مصرية علي التليجرام : https://t.me/hawadedmasiah
إرسال تعليق