في
إحدى تلك القري المتناثرة في أرجاء الدلتا حيث تتزاحم تلك القري بعضها البعض علي ضفتي
نهر النيل الذي امتد منذ آلاف السنين عبر صحراء مصر ليخلق من حولة حضارة ومجتمعات منذ
فجر التاريخ وهي تعاني من قسوة الحكام وعدم المساواة والعدل عبر التاريخ, تلك المجتمعات
كانت عنواناْ للسُخرة والظلم الاجتماعي, فهنالك الكثير من الفلاحين الذين سكنوا تلك
البقاع منذ آلاف السنين في تلك المجتمعات الريفية التي توارثت الكثير من التقاليد المتحجرة
عبر كل تلك الأجيال المُتعاقبة فالكثير منهم كان يعاني من الفقر والعوز والعمل الدائم
في أراضي الغير من وجهاء تلك القري الذين يملكون الكثير من تلك الأراضي منذ فترات طويلة
نتيجة لغياب العدالة الاجتماعية طوال العهود السابقة ,فعندما تجوب تلك القري تجدها
متشابه في كثير من نواحي الحياة العادية وطبقات الناس التي لم تختلف كثيراْ منذ القدم
منذ العصور الأولي وحتي إلي عهد قريب فالحياة مُرتبطة بشكل مُباشر أو غير مباشر بالأرض
لأنها كانت دائماْ هي مصدر السعادة والشقاء لكل من يسكن في تلك القري من جميع الطبقات
المتنوعة داخل المجتمع الصغير للقرية والذي يشبه المُجتمع المصري ككل.
فتلك المنازل القديمة التي نراها مبنية من الطوب
اللبن والطين وأخشاب الأشجار و الحطب الذي يغطي سقف تلك المنازل الصغيرة والتي استمرت
منذ بداية معرفة الإنسان بالزراعة وحتي عهد قريب كما هي الغالبة والسائدة في جميع أطراف
القرية حيث يسكنها أغلب سكان القرية الذين يعيشون علي ما يتبقى من الطبقات الحاكمة
والتي توارثت كل شيء عبر التاريخ والتي تغيرت أشكالها فقط مع تغير الحقبات التاريخية
ولكن المبدأ لم يتغير طوال كل تلك العهود, هذا المبدأ وهو عدم وجود عدالة حقيقية لتلك
الطبقة العريضة من الفلاحين فالرغم من محاولات قانون الإصلاح الزراعي لإعادة العدالة
الاجتماعية لتلك الطبقة التي ظُلمت لآلاف السنين لكن لم يتحقق ذلك بسبب تلك الطبقة
الطفيلية التي كانت تظهر في كل عهد يظنه الفلاح أنه عهد جديد بالنسبة له, فالفلاح يعمل
من أجل الغير ويعيش في حالة لا يرثي فهو فريسة لكل تلك الأمراض المستوطنة والإهمال
في كل جوانب الحياة لذلك كان يشعر الفلاح أن تلك الأرض التي يزرعها ربما لم تكن يوماْ
ملكاْ له ولكنة كان يشعر أن كل حياته مُرتبطة بها وأن الأمل بأن يملك تلك الأرض في
يوماْ ما هو حلم ثوري أراد أن يحققه علي مر كل تلك الثورات التي مرت بها مصر في العهد
الحديث.
أما الطبقة الثانية من باقي أهل تلك القري والتي
كانت لها خصائصها المميزة في داخل هذا المجتمع القروي في مصر فكان يعلمها القاصي والداني فالقليل منهم من كان يملك تلك المنازل المبنية بالطوب
الأحمر والتي تكون في الغالب في منتصف تلك القري والتي تدل علي ثراء أهلها وأنهم من
يملكون الغالبية من أراضي تلك القري وهم أيضاْ من يملكون مفاتيح السلطة علي مر العصور
مع السلطة المركزية في العاصمة.
في
تلك البيوت التي كانت تتراص علي أطراف القرية والتي كانت تشمل بين جُدرانها
معاناة ويأس هؤلاء الفقراء والذين
كانوا يصارعون من أجل البقاء علي قيد الحياة فقط فكل شيء غير هذا فهو شيء ترفيهي حتي
من يقوم بإرسال ابنا له لكي يتعلم فهذا معناة حياة أشد قسوة لباقي أفراد تلك العائلة
من أجل تحقيق ذلك الحلم.
ففي
أطراف قرية صغيرة من تلك القري كان يوجد بها منزل صغير مبني من الطوب اللبن يبدو للوهلة
الأولي أنه منزل بسيط وصغير ولكنة كان مختلف عن باقي تلك المنازل التي تملئ تلك القرية
ربما لأن صاحب هذا المنزل رجل بسيط في كل شيء حتي في تعاملاته مع باقي أهل القرية فكانت
الابتسامة لا تفارق شفتيه ربما لأنه كان يشعر أن أهل تلك القرية هم عائلته التي لم
يكن يجدها من حولة في واقع الأمر.
كان
يدعي عبد الواحد رجل فقير لا يمتلك من حطام الدنيا سوي بعض القراريط التي يزرعها بحب
وسعادة حيث لم يكن له في تلك الدنيا سوي أخ واحد يدعي سالم ولكن ذلك الأخ لم يكن يهتم
بأمر أخية ربما لقسوة تلك الحياة علي الجميع أو ربما لأشياء أخري لم يكن يعلمها عبد
الواحد ولكن كان يشعر بها عبد الواحد, كان دائماْ السؤال عن أخية الأكبر فلم يكن له
أحد سواه في تلك الحياة بالإضافة إلي زوجته هنية التي كانت تشعر بالسعادة بجواره بسبب
حُبة الشديد لها ومحاولاته الدائمة لإسعادها رغم أن الأرض لم تكن تمنحه الكثير لكي
يشتري لها الكثير من الأشياء التي تسعدها مثل باقي النساء.
كان
عبد الواحد يتذكر عندما كان مازال صغيراْ وعُمرة لم يتعدى السادسة حينما ذهب مع والدة
لكي يستلم عقد الخمسة فدادين والتي وزعتها
حكومة الثورة علي الفلاحين من خلال قانون الإصلاح الزراعي حيث أعاد الأرض لأصحابها
بعد مئات السنين , مازال عبد الواحد يتذكر فرحة أبية والابتسامة العريضة عندما تسلم
عقد الخمسة فدادين وهو لا يصدق ذلك فكل أجداده عاشوا يتمنون تلك اللحظة الرائعة في
حياة كل فلاح مصري عاصر تلك الحقبة من المد الثوري ,كان يتذكر فرحة أبية وهو يعمل ويكد
ويجتهد مع ابنه الأكبر سالم الذي كان يكبره بعدة سنوات, كانوا يزرعون تلك الأرض سوياْ
الأب والابن الأكبر ولكن القدر لم يمنح والد عبد الواحد تلك الفرصة لكي يعيش طويلاْ
يشاهد تلك الأرض التي تملكها من حكومة الثورة فالأب قد رحل وترك عبد الواحد صغيراْ
في كنف أمة وسالم الذي تسلم زمام الأرض من بعد أبية حيث كان المتحكم في كل شيء من بعد
رحيل والدة.
يتذكر
عبد الواحد مشوار حياته واليتم الذي شعر به بعد وفاة أبية والغُربة التي كان يشعر بها
تجاه أخية الأكبر سالم الذي أراد أن يملك كل شيء من بعد الأب راغباْ بأن يجعل عبد الواحد
ليس سوي أجير في أرضة التي ورثها من أبية ولكن عبد الواحد جاهد مع أخية سالم حتي نال
نصيبة من تلك الأرض بعد وفاة الأم أيضاْ.
لم
يكن يفهم عبد الواحد لماذا كان يفعل سالم معه ذلك بالرغم من أنه ليس له أخوة أخريين
,هل السبب في ذلك الطمع أم تلك التقاليد التي تُمنح الأخ الأكبر كل شيء ولكنة في نهاية
الأمر استطاع أن يستعيد أرضة ليبني حياة جديدة له بعيداْ عن أخية سالم, حياة ربما يكون
فيها وحيداْ ولكنة أصبح رجلاْ ويستطيع أن يعيش مثل باقي أهل تلك القرية التي يسكنها
عبد الواحد.
في
ذلك المنزل الصغير المتواجد في أطراف تلك القرية الصغيرة كان عبد الواحد يشعر أن ذلك
المنزل رغم بساطته فإنه بمثابة مملكته الخاصة به ربما لأنه يملك ذكري مع كل ركن بداخلة
وهو يبنيه بمفردة مثل حياته الجديدة أو ربما لأنه قبل ذلك كان يشعر بالوحدة وأن أحد
لم يكن يهتم به بسبب وفاة الأب والأم وهو في سن صغير فلم يشعر بتلك المشاعر التي يمنحها
الوالدين لأبنائهم ولم يكن له أيضاْ فرصة لكي يتعلم مثل بعض أبناء القرية ,كان يشاهدهم
وهم في طريقهم إلي الكُتاب أو إلي المدرسة التي بنتها حكومة الثورة من أجل تعليم أبناء
الفلاحين ولكنة لم يستطع أن يكون مثلهم فالقدر لم يمنح عبد الواحد تلك الفرصة أو تلك
الرفاهية لكي يجد طريقة لحياة أفضل بل كان أقصي متخيلة عبد الواحد هو أن يزرع تلك الأرض
ليستطيع أن يتزوج ويحقق بعض أحلامه التي كانت تراوده وهو صغير.
عبد
الواحد كان يحلم بالكثير بسبب ما كان يعانيه من وحدة في حياته فكان دائماْ يحدث زوجته
هنية برغبته بأن يكون لدية الكثير من الأولاد ليكونوا عائلته التي لم يجدها في صباه
وأنه سوف يجتهد ويكد في العمل لكي يستطيع أن يمنحهم فرصة التعليم التي لم يجدها في
طفولته, كان عبدالواحد كثير الحديث عن تلك الأحلام لزوجته ربما لأنه لم يكن يجد أحد
قبل زواجه يحكي له ويحدثه فالوحدة كانت قاتلة بالنسبة له ولكن الأن لدية هنية في ذلك
المنزل الصغير تبتسم له و تمنحه مشاعر الحُب والحنان الذي حُرم منة من بعد وفاة الأب
و الأم ,كانت هنية تشعر بداخلها بحب عبد الواحد وطيبة قلبة التي كانت تشع نوراْ ودفئاْ
في ذلك المنزل البسيط.
فهنية
لم تكن تختلف حياتها عن عبد الواحد في شيء فهي أيضاْ لم تجد ما تتذكره من حياتها السابقة
قبل زواجها من عبد الواحد من سعادة أو فرحة أو أحلام بل لم تكن تمتلك سوي حلم واحد
فقط وهي أن تجد زوج رقيق القلب مثل عبد الواحد , فكانت تشعر أن عبد الواحد ربما يكون
أفضل زوج في تلك القرية لها لأنه مثلها تماماْ وربما نتيجة لكل تلك الظروف ربما يستطيعا
معاْ أن يخلقوا تلك السعادة التي لم يشعرا بها من قبل فربما يستطيعا أن يفعلا ذلك معاْ.
إرسال تعليق